إنّ موقع المرافئ اللبنانية (بيروت وطرابلس) المنافس إقليمياً لمرافئ العدو الاسرائيلي، وموقع الثروة الغازية المرتقبة في البحر المتوسط، وضعا لبنان في الخارطة الجيوسياسية العالمية والاقليمية.
تعطي الولايات المتحدة الامريكية دوراً للإدارة الإستراتيجية، بهدف اتباع سياسة أكثر توازناً عالمياً تمنع إتساع نفوذ الدول المناهضة للسياسات الأميركية، خصوصاً أنّ ذراع بعض الدول الجيوستراتيجية (فرنسا، ألمانيا، اليابان) يساعدها في بسط نفوذها العالمي.
من دوافع إنشاء الحلف الأطلسي هو النفوذ الأميركي في أوروبا، وامتداده اإلى عالمي محوريّ، إبتداءً بتثبيت الحصار الجغرافي على روسيا، من خلال تبعية أنظمة الدول المحيطة بها (إنتقال أوكرانيا من جانب الاتحاد السيوفياتي إلى حليف للشمال الأطلسي)، وانتهاءً بمجابهة طموح الصين الاقتصادي بعدد من الدول الجيوستراتيجية ومنها اليابان.
إذاً الدور الأميركي، سيتركز على المناطق الجغرافية، مركز الثراوات خصوصاً قارة آسيا، إضافةً إلى الشرق الأوسط، المتمتع ببعد جيوسياسي متّصل بمصلحة أميركا العالمية. لذلك سيكون العمل بالحدّ من الطموح الجيوسياسي الصيني، ومنعها من الدخول بثقلها الاقتصادي إلى هذه الدول وبالتالي زحفها نحو الغرب.
فالمصالح الممتدة إقليمياً وقاريّاً، بحاجة لمناورة سياسية ومعالجة ديبلوماسية تعيد ترميم ما تزعزع منها، خصوصاً أنّ الصراع بوقتنا يرتكز على السباق من أجل السيطرة الجغرافية وهذا ما حصل في إقليم كراباغ الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ومن خلفها الدول الداعمة خصوصاً أنّ هذه الدولة تمثّل بوابة الثروات الكامنة في بحر قزوين، فمن الأهمية الاستراتيجية بقاؤها في نطاق النفوذ الأميركي.
بالرغم من اختلاف الأولويات والأهداف بين روسيا والصين دولياً، إلاّ أنّ ما يجمعهما وجودهما في الجهة المقابلة للنفوذ الأميركي. وتبقى الصين الدولة الأكثر تهديداً للنفوذ الاميركي من الناحية الاقتصادية، خصوصاً ما نتج أخيراً عن تطور قطاع التكنولوجيا ودخوله السوق العالمية بقوة، وأحد الأمثلة تطبيق (tiktok)، ومن تهديداته الاستخباراتية من خلال المعلومات التي سيؤمنها هذا التطبيق للصين دون عناء.
وأمّا بالنسبة لروسيا ستحاول الولايات المتحدة، تغيير موقفها ووضعها الدولي عن طريق نشر الديمقراطية الأميركية، وما وراءها من تأثيرات ثقافية. بذلك تصبح روسيا دولة جيوستراتيجية تابعة للمحور الأمريكي، وذلك مرهون بمدى عدم مناعة الساحة الداخلية الروسية.
ومن الدول الجيوستراتيجية الحليفة لامريكا، فرنسا التي تحظى بدور في الشرق الأوسط، لما تفرضه السيطرة من وجود دور جيوستراتيجي لهذه الدول ودول آخرى.
ونتيجةً لتغيّر الوضع السياسي لاقليمنا والتطبيع مع العدو الاسرائيلي، أصبح الخليج العربي نقطة استراتيجية لهذا العدو من أجل محاصرة إيران، مع ما يشكّل هذا الوضع من تهديد للنفوذ الأميركي على هذه المنطقة، فالحكومات وافقت على التطبيع، ما يتناقض مع رغبة غالبية شعوب المنطقة الرافضة لأيّ تطبيع. لذلك من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية المسيطرة على الثروة النفطية في الخليج العربي بقاء الاستقرار والعمل على احياء الاتفاق النووي مع إيران، الذي سيكون مدخله العمل على حلّ سلمي لليمن بعد حرب خاسرة من الناحية الاستراتيجية للسعودية.
ومن بعض أهداف الولايات المتحدة من الاتفاق مع إيران، جعل الأخيرة سدّاً بوجه التقدم الروسي جنوباً، خصوصاً في ظلّ وجود اختلاف كبير بين النظامين الإيراني والروسي، إضافةً إلى معالجة الورقة العراقية. لذا ستكون إيران دولة جيوستراتيجية محورية، ستحاول الولايات المتحدة الأميركية تطويعها بشتى السبل، ومنعها من امتلاك السلاح النووي. إلاّ أنّ قوّة إيران ودعمها للمقاومة، وإضافةً لسياستها الدبلوماسية لن تكون من ضمن النفوذ الأمريكي في المنطقة.
إنّ استخدام القوة ليس بالأمر اليسير في منطقة تشكّل الشريان الحيوي للثروة النفطية، فالحرب إذا بدأت حتماً ستنتهي بمواجهة عسكرية شاملة. هذا ما يمنع العدو الاسرائيلي من ضرب إيران، خصوصاً أنّ الرؤية الامريكية لموقع إيران الجيوستراتيجي تختلف عن الرؤية الأيديولوجية لاسرائيل، وهذا لا يعني أنّ أميركا تتخلى عن العدو الإسرائيلي.
لذلك فإنّ جميع الدول تضغط لتحقيق أكبر مصلحة ممكنة لها، بعيداً عن المواجهة العسكرية الشاملة التي لا تصبّ بمصلحة أحد. وهذا ما اتقنته سياسة طهران بعد إلغاء الاتفاق النووي من قبل إدارة الرئيس الامريكي السابق "دونالد ترامب"، فإيران تجيد المناورات السياسية والمعالجة الدبلوماسية لوضعها الدولي، لذلك اختارت لعبة تقطيع الوقت، وانتظرت نتيجة الانتخابات الاميركية والتفاوض مع الإدارة الجديدة.
إنّ استخدام القوة المباشرة يواجه تقييداً في أيامنا، هذه خلافاً لما كان عليه الوضع سابقاً. لأنّ السيطرة على الأرض من أي طرف أصبحت أكثر تكلفة (الوضع في العراق)، لذلك تفرض المصلحة الأمريكية لعب الورقة الجيوستراجية في الشرق الأوسط، وتوزيع الأدوار. فحدوث حرب كبيرة لا يمكن السيطرة عليها، لا يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية في هذه النقطة الحيوية في العالم.
فالمملكة العربية السعودية مهتمّة ورقة اليمن أكثر من الورقة اللبنانية دون أن يعني ذلك تنازلها عن نفوذها في لبنان، لما لذلك من تأثير على الساحة اليمنية في حال خروجها بالكامل عن سيطرتها، وبالتالي فهي أمام تحدٍ ستؤول إليه أولويات الادارة الأمريكية الجديدة، خصوصاًمع حديث إدارة بايدن عن الصراع في اليمن وتوقيف دعم التسليح للسعودية.
في خضمّ ما يجري، أثبتت سوريا قدرتها على البقاء، خصوصاً بعد مجابهتها لحرب عالمية عن طريق دعم المسلحين بأطيافهم المتعددة، ومقاومتها لحصار إقتصادي مرهق، وذلك بدعم من أصدقائها في محور المقاومة، ووجود مصلحة جيوسياسية روسية عبر تواجدها على البحر المتوسط، الأمر الذي قد يدخلها في حلّ عملي لوضعها العام.
وبما أنّ لبنان المتأثّر بالسياسات الإقليمية والدولية يشكّل الجزء المتقدم لمحور المقاومة، كانت هناك محاولات حثيثة لمحاصرة حزب الله داخلياً عبر اللعب بالأوراق الأمنية والاقتصادية والشعبية، باعتباره ركيزةً أساسية لمحور المقاومة في الشرق الأوسط.
إلى ذلك تلعب الولايات المتحدة ورقة النخبة المؤيدة للسياسة الامريكية، وبالتالي كل شخص يقف في الجهة المقابلة هو بربري وشمولي، ومتخلف عن الديمقراطية وفقاً لمفهومهم. ما زاد الطين بلّةً، محاولة الأفرقاء السياسيين السيطرة على قرار الحكومة اللبنانية بشكل أحادي، خصوصاً ما ستلعبه أي حكومة مرتقبة من أدوار اقتصادية أساسية، وتصفية حسابات سياسية برعاية دولية.
إلاّ أنّ ما أضعف وضع الورقة اللبنانية عبر استخدامها الدولي، هو في تموضع لبنان المؤثّر بفضل الثروة الغازية الكامنة في أعماق البحر الأبيض المتوسط، لذلك تتدخل فرنسا لتهيىء العمل لامريكا والسيطرة على الثروة الغازية عن طريق البنك الدولي، فيصبح جزء كبير من الثروة الغازية جاهزاً لإيفاء الديون التي ستقترض من البنك الدولي.
جاء التدخل الفرنسي في لبنان بعد إنفجار مرفأ بيروت، من أجل العمل على تشكيل حكومة بأجندة إقتصادية وسياسية ترضاها إستناداً للدور الجيوستراتيجي (المخول لها أميركياً)، حتى تؤمن من خلاله مصلحتها في شرق البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي الثروة الغازية، وهذا ما بيرر اندفاعة الرئيس الفرنسي "ايمانويل ماكرون".
يضاف إلى هدف الاتحاد الأوروبي، منع تركيا من لعب دورها الجيوستراتيجي في فرض وجودها كلاعب أساسي في شرق المتوسط ومنها لبنان، إضافةً إلى السعي للسيطرة على حقول الغاز في البحر المتوسط، ما يهدّد الامن القومي الاوروبي، خصوصاً ما لتركيا من تأثير على دول البلقان.
خلاصة الأمر، يختلف وضع لبنان الدولي الحالي بسبب تغيّر الأولويات الدولية. فهو الدولة العربية الوحيدة التي هزمت إسرائيل، وهذا ما يفسّر التحرك الاسرائيلي المستمر لضرب الساحة اللبنانية، إضافةً لارتباط الشأن اللبناني بالجانب الدبلوماسي (المفاوضات مع طهران)، وإهمال السعودية للورقة اللبنانية بسبب إنشغالها بالحرب على اليمن، وعدم قدرة حلفائها في مجابهة نفوذ 8 أذار، وأيّ تحرك عربي لن يكون خارج الدور الفرنسي. وأخيراً وليس أخراً بروز الثروة الغازية في مياهنا الاقليمية التي تمثّل أهمّ الأولويات الدولية الحالية.